بعض الأدلة على مغربية الملحون...بقلم الباحث الأستاذ عبد الجليل بدزي

 بعض الأدلة على مغربية الملحون
   
   بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، اللهم ارفع عنا مقتك وغضبك، وعاملنا بجودك وإحسانك، يا أرحم الراحمين.
أيها الإخوة الكرام:
رجعت بتدقيق كبير لكل الكتابات التي يتحدث فيها الباحثون الجزائريون الأشقاء ـ وأتحدث عن الموضوعيين لا الغوغائيين ـ عن الملحون، وينفون عنه فيها صفة المغربية، ويعتبرونه إنتاجا مغاربيا لا يحق لدولة أن تدعي كونها الأسبق إليه، ويستدلون على ذلك بمجموعة من الأدلة أوردها كالتالي:
1/ أن سيدي لخضر بن خلوف كان معاصرا للمولى عبد الله بن حسين الذي ينسب له المغاربة أولى قصائد الملحون، ويقولون بأنه أول من كتب في الملحون، ويقولون بأن سيدي لخضر هذا كان أكبر من المولى عبد لله بن حسين، وبهذا سيكون أسبق منه لنظم الزجل الملحون.
2/ يدعي الباحثون بالجزائر الشقيقة أن سيدي الخضر بن خلوف هو أول من نظم في قصائد الجفريات، وأن سيدي عبد العزيز المغراوي قد تتلمذ على يديه في هذا الغرض.
3/ يسوقون دليلا على براعة سيدي لخضر بن خلوف في النظم، يتعلق بكونه الأسبق إلى اختراع بحر مكسور الجناح، ويستشهدون على ذلك بقياس العوادي.
   هذه أهم أدلتهم التي رصدتها، وهي تتنوع بين التاريخ والمضمون والشكل في النظم، ويطلبون أن نعود لاستقراء النصوص من أجل التحقق من هذه القضايا والحقائق.
   من هنا أتوجه لأشقائنا راجيا منه أن يتحلوا بنوع من الهدوء والروح الرياضية حتى نناقش هذه الأدلة ونعالجها بنوع من الموضوعية على ضوء التاريخ، وأسمي الله وأبدأ قائلا:   
1/ بالنسبة للدليل الأول الذي يتحدث عن كون سيدي لخضر بن خلوف هو أسبق تاريخيا من مولاي عبد الله بن حسين، وأنه أكبر منه، فهذا الدليل قد تم تفنيده بالحجة الدامغة، وذلك من خلال قراءة في نص مولاي عبد الله بن حسين كما أورده الشيخ الجليل سيدي مصطفى خليفي أخذا عن كتاب القصيدة، ولمن أراد أن يتوسع في ذلك فليعد إلى الكتاب المذكور، ومع ذلك لم يمر الأمر دون وجود اعتراضات من قبيل السؤال عن عدد النصوص التي تتوفر لمولاي عبد الله بن حساين، لأقول كإجابة عن هذا السؤال وأنا الذي لا تفصلني على الزاوية المصلوحية سوى خمسة عشر دقيقة ـ أن هناك نصوصا عبارة عن رباعيات وقصائد بدون حربات اعتبارا من أن الحربة لم تخترع إلا على يد أحد الشعراء المغاربة الذي ظهر في العصر السعدي، ومع ذلك نكاد نجزم بأن عددا لا بأس به من النصوص قد ضاع نتيجة لأسباب ليس هذا محل ذكرها، وما تبث له من نصوص زجلية يؤكد أن الشيخ كان زجالا، وسنورد جانبا من هذه النصوص في القادم من الكتابات.
2/ القول بأن سيدي لخضر بن خلوف هو أول من نظم في الجفريات شيء لا يثبت أمام منطق، ولا يستسيغه عقل الباحث الرصين الذي يقرأ كتب التاريخ قبل القراءة في النصوص التي تزكيه، ذلك أنه برجوعنا إلى التاريخ المغربي ـ خاصة في العصر المريني ـ نجد المغاربة قد تفننوا في التنجيم، وكثرت فيه "الملاعب" والقصائد، وهي في بنائها وطريقتها مماثلة "للملعبة"، ويبدو من خلال أزجال هذه الفترة أن الذين كانوا ينظمونها كانوا يتنبأون فيها بما سيقع، حيث كانت سوق التنجيم نافقة يومئذ عند الخاصة والعامة ... ومن الأمثلة على تلك الأزجال، قصيدة للزجال الكفيف الزرهوني ـ وهي غير الملعبة ـ يقول فيها:
أيا سَائـلا عَنْ كـُلّْ ما فَي العَامْ ** نْفيــدَكْ بْــما فالنــقـــدْ والـنّْكـــالـــي
تْــدورْ السنُــونْ كــدوْرْتْ ليَّـامْ ** عْــبَــارَ فـي هـــذا اللـفــظ لمْـثَــالـي
ألا فاسمعــوا ما قَــالـْـتْ العُلـَمَا ** دْخــولْ السنـة بالحــد فيهـا اخــيــارْ
زْمَــانْ الشتا صَاحِي قْليـلْ الـْما ** وفصْلْ الربيـع شَاتِي كـْثيـر لـَمْطـَارْ
وُوَقْتْ الصيف يُخشَى مَنْ الغُمَّا ** وزْمَانْ الخريفْ ياتِي عْجَاجْ وغْبَارْ
أليس هذا هو الجفر الذي تتحدثون عنه؟ ألا ترى أن المغاربة كانوا أسبق إليه قبل سيدي لخضر بن خلوف بكثير؟، والواضح أن الشيخ قد تأثر بهم كثيرا في هذا المجال ونظم على منوالهم إنما بلغة العصر البعيدة عن لغة عصر بني مرين. وللتوسع أكثر في هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى كتابين قيمين هما: مقدمة ابن خلدون/ ووصف إفريقيا للوزان.
3/الدليل الثالث يتحدث فيه أشقاءنا على كون لخضر بن خلوف هو أسبق للنظم في بحر مكسور الجناح من المغاربة، وقد سبق لي أن استمعت لمناقشات الأشقاء بالجزائر حول هذا البحر، وأدركت أن فهمهم لهذا البحر وتقنية النظم فيه بعيدة عن تصور المغاربة له، وأنهم يلحقونه بالمبيت، خاصة (اقياس العوادي)، ولا تصح هذه المقارنة على الإطلاق، لذلك طلبت من إخواننا التوضيح المبدئي لما يقصدونه ب "مكسور الجناح"، حتى أتمكن مناقشتهم عن بينة، ودون أن يظلم أحدنا الآخر، فعندما نناقش بعضنا حول قضية تصورنا لها مختلف، وتعريفنا لها مختلف، فلا يمكن أن نتواصل أو أن نصل إلى حقيقة.
أرجو وأؤكد على ضرورة فتح قلوبنا جميعا للخير والمحبة بكل صفاء، وأن يكون الحوار هادئا دون أي تجريح، وأن نناقش الأفكار لا الأشخاص، كما يجب أن نكون مستعدين جميعا لقبول النتيجة مهما كانت، مادام للأشقاء الجزائريين ملحونهم وأشياخهم، ولنا أيضا ملحوننا وأشياخنا، فهذا النوع من الاختلاف جيد، ومقبول، وحتما إن توفرت النيات الحسنة، سنصل من خلاله إلى النتيجة المرجوة، مع تقديري للجميع سواء المساند أو المخالف.