في رحاب الملحون المغاربي
اهلا وسهلا بكل الزوار يسعدنا تواجدكم معنا في منتدى رحاب الملحون المغاربي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

في رحاب الملحون المغاربي
اهلا وسهلا بكل الزوار يسعدنا تواجدكم معنا في منتدى رحاب الملحون المغاربي
في رحاب الملحون المغاربي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
في رحاب الملحون المغاربي

في رحاب الملحون المغاربي

 اللغة العربية المغربية لغة الملحون / الباحث الأستاذ محمد بوعابد Screen69

أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد! يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى

اللغة العربية المغربية لغة الملحون / الباحث الأستاذ محمد بوعابد

اذهب الى الأسفل  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

في رحاب الملحون المغاربي


عضو نشيط
عضو نشيط

سلام عليك أهل الشعر المغربي العربي الملحون، ورحمة من العلي القدير. وأبعث إليكم بحثا حول لغة هذا الشعر متمنيا أن يجد تفاعلا من لدن المهتمين والمنشغلين بسؤال هذا الإبداع الشعري المغربي.        
اللغة العربية المغربية لغة الملحون
ذ. محمد بوعابد
دعونا نصادر على المطلوب منذ البداية، فنسجل أن المسمى ملحونا، والذي يقدم باعتباره فنا وطربا، إنما هو شعر. وإذا كان من الصعوبة بمكان أن نعرف الشعر بصفة مطلقة، نظرا لتعدد التعريفات التي قدمت له في كل اللغات الإنسانية، ووفقا للنظرات والنظريات التي يتبناها القائمون بتعريفه، واستنادا إلى أن كل تعر يف إنما هو تحديد، وكل تحديد إنما هو قصر وقسر، يذكرنا بخرافة سرير بروكست، فإننا سننطلق من أن الشعر هو أولا وقبل كل شيء لغة خاصة داخل اللغة العامة، إذ هو اللغة التي يخرج بها الشاعر من مستوى التواصل إلى مستوى إبداع الجمال، أي من مستوى الاستعمال العادي الذي يمارسه كل واحد من العشيرة اللسانية إلى مستوى الاستعمال الشعري الذي يتغيا إبداع الجمال وتمكين المتلقين من تذوقه. ومن هنا نسجل أن اللغة التي يتوسلها شعراء الملحون الشيوخ تستدعي منا التوقف عندها ومحاولة دراستها لاستجلاء ارتباطها باللغة العامة. وهكذا تواجهنا الأسئلة التالية: ما هي اللغة العامة التي يمتاح منها الشعراء الشيوخ؟ أهي اللغة العربية الموصوفة بكونها فصيحة، والمنعوتة من لدن المستشرقين باللغة العربية الكلاسيكية، ولغة القرآن؟ أم هي اللغة الأخرى التي تعتبر لغة دارجة وتوصف بأنها عامية؟ ولهذا ستنصب مداخلتي حول محاولة تقديم وجهة نظري الشخصية في الإشكالية الفكرية المقترح تناولها ومعالجتها. وسأعمد إلى تقديمها عبر محاولة الإجابة على الأسئلة التالية: 1 ــ ما الملحون؟ 2 ــ ما العربية الفصحى؟3 ــ ماذا نقصد بالعامية؟ وأية علاقة تجمعها بالعربية الفصحى؟4 ــ كيف تظهر العربية الفصحى والعامية في الملحون؟
1 ــ ما الملحون؟
من الواضح لمن له إلمام باللغة العربية ، ولا ينبغي لهذا الإلمام أن يكون بسيطا، أن هذه اللفظة مشتقة من اللفظ العربي (لَحَنَ) الدال حين استعماله على جملة من المعاني والدلالات، يبلغ عددها ستة بحسب ما سجله ابن منظور في مصنفه المعجمي ((لسان العرب)) (1)، وهي: ( 1الخطأ في الإعراب، و2اللغة، و3الغناء، و4الفطنة،و5التعريض، و6المعنى) . فقد نستعمل (لحن) باعتباره فعلا يفيد الدلالة على الوقوع في الخطأ الصوتي أو الصرفي أو النحوي التركيبي أو المعجمي الدلالي. ويستعمل لفظ (اللحن) في العربية لإفادة الدلالة على استعمال اللغة، فقد سجل ابن منظور قولهم: (لحن الرجل يلحن لحنا: تكلم بلغته). ويمكن استعماله مزيدا بالتضعيف (لحّن) فيصير مفيدا للدلالة على توقيع الكلام وموسقته ليغدو قابلا للغناء والتطريب. كما يستعمل متعديا بحرف الجر لإفادة التعريض فيقال: (لحن له يلحن لحنا: قال له قولا يفهمه عنه ويخفى على غيره لأنه يميله بالتورية عن الواضح المفهوم)، ولإفادة الفطنة يقال: (لحن الرجل، فهو لحن إذا فهم وفطن لما لا يفطن له غيره)، ونستفيد من قوله تعالى: (ولتعرفنهم في لحن القول)، أن هذه اللفظة تدل على المعنى والفحوى.
ومن الجلي كذلك أن لفظة الملحون قد اشتقت للدلالة على ما وقع عليه فعل اللحن، فهي اسم مفعول. ولربما لهذا السبب اختلف الدارسون في تفسير لماذا تمت تسمية هذا الأدب والفن المغربي بهذه التسمية. فذكر الأستاذ العلامة محمد الفاسي (2) أنها من اللحن الذي هو الغناء وترجيع الصوت، لأن الغاية في نظره من إبداع نصوص هذا الشعر هي التغني بها وإنشادها. وسجل الدكتور عباس الجراري في أطروحته (3) أن هذه التسمية قد تم إطلاقها على هذا الشعر بسبب من عدم خضوعه لقواعد اللغة العربية في مستوياتها الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية. ورأى الشاعر الشيخ أحمد سهوم (4) أن ما أريد من وراء إطلاق هذه التسمية على هذا النمط من القول الشعري المغربي إنما هو إفادة الدلالة على اتسامه بالبلاغة، بما أنه قادر على الإبلاغ والإقناع من خلال الإمتاع بلغته وموسيقاه وصوره الشعرية.
وإن أهم ما أفادتنا به هذه الجولة في المعجم العربي لهو أن لفظة الملحون التي أطلقها الأسلاف على هذا النمط من القول الشعري العربي المغربي قد أريد بها أن تدل على:
أ ــ أننا أمام لغة عربية تمتاح موادها، الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية والتداولية، بالأساس من متون الثقافة العربية المتمثلة في كتاب الله وسنة نبيه (ص) وشعر شعراء العربية منذ الزمن الجاهلي وإلى أقرب العصور.
ب ــ وأننا نستقبل فكر وفطنة هؤلاء الشعراء الشيوخ مجسدة في هذه اللغة العربية، ومبرزة لقدرة الإنسان المغربي على اكتشاف الجمال في الطبيعة والمجتمع، مثلما هي مبرزة لقدرته على إبداع الجمال لسانيا.
ج ــ وأننا نتلقى هذه اللغة محملة بمعان ودلالات تظل مرتبطة أشد الارتباط بثقافة وحضارة هذا المجتمع المغربي، كما بتاريخه وجغرافيته. علاوة على ارتباطها المتين بالثقافة والحضارة العربية الإسلامية كما تلقاها وورثها الأسلاف والأخلاف في هذا الصقع المغربي.
د ــ وأننا، في البدء وفي الختام، نتقبل هذا الإبداع الشعري باعتباره نصوصا موضوعة للإنشاد والغناء وفقا للإيقاعات والمقامات المغربية الأندلسية.
استنادا إلى كل ما سلف نستطيع القول إن الملحون لفظ أطلقه المغاربة على أنماط من القول الشعري وأشكال من الإبداع الأدبي الذي يتوسل اللغة العربية كما يستعملها المغاربة في حياتهم اليومية، وقد عمل الشعراء الشيوخ على الارتقاء بها إلى مستوى إنتاج الجمال، أي إلى أن تغدو لغة شعرية تخرج بتعابيرها وموسيقاها وصورها الشعرية عن مألوف القول وعادي الاستعمال اللساني. وربما لذلك درج أهل الملحون على تداول القول التالي: ((فراجة الملحون فـ كلامو))، والمعنى الذي يستفاد من هذا القول هو أن ((فرجة الشعر الملحون تتجلى في كلامه وليست في أنغامه وألحانه)).
2 ــ ما العربية الفصحى؟ 
في اعتقادي أن المقصود بالعربية الفصحى في هذا العنوان إنما هو هذه اللغة التي تكلمت بها العرب منذ الزمن الجاهلي، ثم جاء الدين الإسلامي فرفعها من مجرد لغة قوم إلى لغة عقيدة وثقافة، ثم غدت مع التطورات التي عاشتها وعايشتها الأمة الإسلامية خلال القرون الموالية لغة حضارة استطاعت أن تفرض نفسها على جميع أمم العالم القديم لدرجة أن أصبحت خلال تلك العصور هي اللغة العالمية التي يتم بواسطتها التواصل وعبرها يقع نقل العلوم والمعارف بين أمصار وأصقاع العالم القديم. 
وللدارس المتأمل أن يلاحظ أن العربية في الحقيقة عربيات (5) ، إذ تشكلت في العصور القديمة  عبر التطورات التي عرفتها لهجات القبائل العربية، وكانت تتجسد بالأساس في اللغة الأدبية التي اختارها الشعراء الأمراء من أمثال امريء القيس والنابغة الذبياني والشعراء الصعاليك من عيار عروة بن الورد والشنفرى، ثم مع الإسلام صارت لغة الدين إذ بها نزلت سور القرآن الكريم وتم تدوين السنن والأحاديث النبوية، كما استعملها الشعراء والأدباء خلال العصور الموالية للتعبير والتصوير، وفي العصور الموالية وظفها المفكرون والفلاسفة، ونقل بواسطتها المترجمون العلوم والفلسفات التي تعرفت عليها الثقافة العربية الإسلامية وعملت على الاغتناء بها وإغنائها ثم نقلها إلى العالم.
غير أن العلامة ابن خلدون (6) ينبهنا في الفصول الأخيرة من مقدمته إلى أن اللغة العربية التي يسميها لغة مضر كانت قد عرفت في ذلك الزمن نوعا من التحول على مستوى التمسك بقواعد الإعراب. إذ سجل في الفصل السابع والأربعين ( أن لغة العرب لهذا العهد لغة مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير) ص: 555، كما سجل في الفصل الثامن والأربعين (أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر) ص:558. بحيث بين كيف أن مخالطة العرب لغيرهم من الأمم كانت سببا في ذلك الابتعاد عن اللغة المضرية وعلة لامتزاج الملكة الأولى التي كانت للعرب مع الملكة التي لأهل البلد الأصليين، ولذلك يقول عن أهل الغرب الإسلامي: (( أما إفريقية والمغرب، فخالطت العرب فيها البرابرة من العجم لوفور عمرانها بهم، ولم يكد يخلو عنهم مصر ولا جيل، فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم ، وصارت لغة أخرى ممتزجة. والعجمة فيها أغلب لما ذكرناه، فهي عن اللسان الأول أبعد.)) ص: 558. ولا تقتصر هذه الظاهرة ــ بحسب ابن خلدون ــ على المغرب العربي، بل لها حضور قوي في المشرق العربي كذلك، بسبب من اختلاط العرب هنالك بغيرهم من الأمم كالفرس والهند والديلم إلخ...
العربية الفصيحة إذن هي اللغة العربية التي جاء بها كتاب الله "القرآن الكريم"، ودونت بها الأحاديث والسنن النبوية، وهي التي تجسدت فيها النصوص الشعرية والأدبية، والكتابات الفقهية والفكرية الفلسفية ... ولعل أهم مميزاتها أنها لغة لأصواتها نطق خاص كالجيم والقاف والعين والهاء، ولعل ذلك ما جعل أهلها يسمونها لغة الضاد. وهي كذلك لغة تخضع لقواعد النحو العربي، أي أن مكونات جملها لا تكتسب دلالاتها من ترتيبها الجملي فحسب، بل ومن خلال إعراب مفرداتها، وعبر الصيغ الصرفية التي تأتي عليها تلكم المفردات. 
3 ــ ماذا نقصد بالعامية؟ وأية علاقة تجمعها بالعربية الفصحى؟ 
لفظة العامية مصوغة لإفادة الدلالة على الانتساب إلى كل ما هو عام في مقابل ما هو خاص، ومن هذا اللفظ نشتق كذلك الجمع الدال على عموم الناس، وبالضبط على الذين ينتمون للطبقات الدنيا في المجتمع فيقال لهم (العوام). وتستعمل هذه اللفظة في الغالب للدلالة على الذين لا ثقافة لهم ولا معرفة تميزهم، وبالتالي يراد منها القول إن المنعوتين بها أميون لا يتقنون الكتابة والقراءة، وينتمون إلى أسفل طبقات المجتمع وأحط أفراده. ولعل المقصود بها في الاستعمال العادي إنما هو اللغة التي يتم استعمالها من قبل عموم الناس في المغرب.
اللغة العامية بهذا المعنى هي ما يطلق عليه كذلك ألفاظ أخرى، منها: اللغة الدارجة، واللغة المحكية. والمقصود من وراء ذلك كله إنما هو ذلك التشعب اللساني الذي نتج عن اختلاف الناطقين باللغة العربية، والذي نجم عن امتزاج لسانين أو مجموعة من الألسن، فقد سجل الشيخ رشيد عطية (7) في مقدمة مؤلفه الموسوم: "معجم عطية في العامي والدخيل" بأن (( اللغة العامية متشعبة الفروع لاختلاف لهجات الناطقين بها. فما تراه عاميا في لبنان لا تجده كذلك في دمشق وسائر أجزاء سوريا، بل إن كل قرية في لبنان لها لغة عامية خاصة ولهجة يعرف بها أهلها (...) هذا فضلا عن أن عدة ألفاظ عامية هي من بقايا السريانية أو العبرانية أو غيرهما من أخوات العربية وكانت شائعة قبل الفتح الإسلامي والعهد العربي الزاهر. وقد توارثها الأعقاب عن الأسلاف إلى أن وصلت إلينا فاستعملناها ونحن نحسبها عامية والحقيقة أنها دخيلة من لغات أخرى)). ويعرف هذا الكاتب اللغة العربية العامية فيقول إنها: ((...عبارة عن الألفاظ التي تناولها العامة وشوهوها تحريفا وتصحيفا حتى ضاعت أصولها الفصيحة.)). ويرى أن النحت والقلب والإبدال هي العمليات التي تتم بواسطتها تحويل العديد من الألفاظ عن حالة الفصاحة لتصير ألفاظا عامية. 
ولو أردنا ألحديث عن العامية المغربية لقلنا إنها العربية التي تمازجت مع اللهجات الأمازيغية وما تم توارثه من الألفاظ والتعابير الدخيلة التي يعود بعضها إلى الأصول اللسانية اللاتينية ويتجسد في ما هو إسباني وما هو فرنسي. وهذه الألفاظ والتعابير العربية الأصل قد طالها على مستوى البناء الصرفي النحت والقلب والإبدال. فمن أمثلة النحت استعمالنا في السؤال: آش ــ اشكون ــ لاش ــ اعلاش...ومن أمثلة القلب استعمال شيوخ الملحون للفظة الدعض مكان العضد، إذ القلب في اللغة هو تقديم أو تأخير حرف على آخر من حروف اللفظة. ومن أمثلة الإبدال في عاميتنا إحلالنا في مراكش صوت الجيم المعقودة مكان الجيم ومكان القاف،كما في (اجلس واقعد)، وإحلال أهل فاس مثلا الهمزة مكان القاف، كما في (قال ...)، وإبدال أهل مكناس نطق الشين بالسين والجيم بالزاي، وإبدال أهل الشمال نطق الضاد طاء. ولعل هذه الأمثلة كافية في الدلالة على أن العربية العامية في المغرب هي الأخرى متشعبة بحسب اللهجات واللكنات التي تميز الناطقين بها في كل منطقة من مناطق الوطن المغربي. 
وفي الحقيقة أوثر على التسميات التي تطلق على اللغة التي نستعملها في حياتنا اليومية، والتي هي لغتي الأم، عبارة أراها أكثر قربا من الحقيقة وربما هي أشد دنوا من التوجه العلمي اللساني، ألا وهي عبارة "اللغة العربية المغربية"، بدلا من اللغة العامية واللهجة الدارجة واللغة المحكية(8). إذ أعتقد أن قراءة متمعنة في الفصول المشار إليها سابقا من مقدمة ابن خلدون قد تؤكد فكرة مفادها أن التطورات الاجتماعية والثقافية التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية خلال القرون الوسطى كانت ستفضي إلى أن تغدو اللهجات العربية المتباينة في المشرق والمغرب لغات عربية ذات قواعد مختلفة عن قواعد اللغة المضرية، نعني(9)أن هذه اللغات التي نتج عنها ما عرف في كتابات المهتمين بالزجل والكان كان والقوما والحماق وعروض البلد والملعبة، وما يعرف لحد الساعة باسم الشعر النبطي في المشرق وما نسميه نحن في المغرب باسم الملحون، كانت ستعرف تطورا شبيها بما عرفته اللغات المنبثقة عن اللاتينية والإغريقية في البلاد الأوروبية، فتصير بالتالي لغات وطنية، بمستويات تداولية متباينة وكان من الممكن أن تغدو لغة العلم والمعرفة... ولكن، يقول جل من قائل: ((وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين)) (10) صدق الله العظيم، فقد وقعت تحولات عالمية عميقة خلال ما تلا من حقب ــ وبالأساس خلال ما يعرف باسم العصر الحديث، وهو عصر الاستعمار الأمبريالي الغربي ــ ذهبت ريحها بما كان يعتمل في عمق المجتمعات العربية من عوامل التطور والتقدم، وأفضت إلى انكسار البنيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كانت تنبني عليها هذه المجتمعات العربية الإسلامية، كما أدت إلى تمزق بنياتها الثقافية الفكرية والفنية (11). ولاتكاد النتائج المتوصل إليها في هذه الفقرة تبعد عما تمكن الشاعر الأستاذ محمد الحلوي من تدوينه في مؤلفه المعنون"معجم الفصحى في العامية المغربية". ونستشهد من لدنه بما سجله في الصفحتين7و8: 
((وبانقراض أجيال العربية الأولى وتمازج العرب بأخلاط الشعوب التي فتحوها أوجاوروها بدأت تتسع الهوة بين الفصحى واللسان الدارج اتساعا تزايد مع اتساع الحضارة وتفتح آفاقها حتى تنكرت إحداهما للأخرى وكادت تتبرأ منها، والشأن في هذه اللغات الدارجة لا يكاد يختلف حاله في المغرب أو في غيره من البلدان العربية الأخرى إلا اختلافا يرجع إلى اعتبارات محلية أو حضارية..
وأبرز ظاهرة تبدو للباحث في اللسان المغربي هي ارتفاع نسبة الفصيح فيه واتفاق مخارجه التي تنم عن أصله وتدلك على عروبته، وتختلف هذه النسبة نفسها بين أجزاء الوطن ففي الحاضرة تعيش كلمات عربية لا تحيا في البادية بينما تعيش في البادية كلمات لا مكان لها في الحاضرة(...)
وقد وجدت نفسي منذ زمن بعيد شديد الانتباه إلى كل كلمة تنفرج عنها شفة فلاح أو عامل من عوام الشعب، ولشد ما أندهش عندما أدرك أن كثيرا من كلماتهم الشعبية التي يتندر عليهم بها عربية صميمة حافظوا عليها وأخلصوا لها إخلاصهم لعاداتهم وتقاليدهم..
ومن منا لا يندهش عندما يكتشف أن مثل هذه الكلمات الشعبية التي نترفع عن استعمالها مثل الملاغة والمردية وبالزعط وكرفسه هي فصحى اختفت من الكتاب والقصيدة وبقيت حية على لسان الفلاح ورجل الشارع؟))
كيف تظهر العربية الفصيحة والعامية في الملحون: 
إن أول ما أرغب في إثارته، قبل محاولة الإجابة على السؤال المطروح، هو السؤال التالي: هل الفصاحة سمة خاصة باللغة العربية المسماة فصيحة؟ ولا يمكن لنا العثور عليها سوى في هذه اللغة؟ ولا وجود لها بالتالي في اللغات التي نسمها بكونها عامية؟
والسبب في إثارتي لهذا السؤال هو ما وجدته عند سلفنا العظيم ابن خلدون، وهو ما سبق لنا ذكره عن اعتبار الشعر المغربي العربي الذي نسميه ملحونا بمعنى أنه شعر قادر على أداء وظائفه التواصلية والتعبيرية والجمالية ببلاغة وإبلاغ وبقدرة على الإمتاع والإقناع. فقد توقف العلامة ابن خلدون عند قضية الفصاحة هذه فذكر أن معناها القدرة على البيان والإبلاغ في انجدال مع الإمتاع والإقناع. وأبرز أن كل من يتقن لغة معينة مؤهل لأن يكتشف ما فيها من فصاحة. ويؤكد هذه الفكرة من خلال التمثيل بكون المشرقي قد لا يتمكن من اكتشاف فصاحة اللغة العربية المغربية لأنه غير قادر على تذوق جمالها التعبيري، والحال كذلك مع المغربي حين لا يكون باستطاعته تذوق جمال اللغة العربية كما يتم تداولها من قبل المشارقة. ويوضح ابن خلدون أن التمكن من تذوق بلاغة وفصاحة لغة ما يستوجب بالضرورة امتلاك ملكتها بشكل طبيعي أو تعلم تلك اللغة لبلوغ مستوى تفاعل أبنائها معها.
وإن أهم ما نروم تأكيده هاهنا هو أن اللغة العربية المغربية تتوفر على جملة مقومات بلاغية تستمدها بالأساس من اللغة العربية المضرية المتجسدة في النص القرآني والنص الحديثي والنصوص الأدبية الشعرية والنثرية القديمة، وأنها أغنت وتغني هذا الأساس من خلال العناصر اللسانية والثقافية التي توارثتها الأجيال المغربية منذ الأساس الأمازيغي وما توافد عليه من عناصر ومقومات ثقافية وفنية خلال تلاقحه مع الأمم والشعوب الأخرى منذ أقدم الحقب والعصور.
ومن الممكن، انطلاقا مما سلف، أن نسجل كون الأدب والشعر المسمى ملحونا يتوسل هذه اللغة العربية المغربية في صياغة عوالمه الفكرية والجمالية، وذلك لأن مؤلفي نصوصه الإبداعية قد اتخذوا أساسا ومصدرا رئيسا اللغة العربية المقعدة التي تمتاح معاجمها من القرآن والحديث والشعر القديم، وعمدوا إلى تمييزها بالخصوصيات التالية:
أ ــ التخلي عن الإعراب.
ب ــ استعمال الألفاظ العربية وفق أبنيتها الصرفية، أو مع تحوير تلك البنيات الصرفية.
ج ــ استعمال المعاجم العربية القديمة، بنفس معانيها ودلالاتها أو بتغيير تلك المعاني والدلالات. 
 د ــ استثمار الدخيل من الألفاظ متى كانت الحاجة إليه.
ولعل مسألة التخلي عن الإعراب قد لا تحتاج منا للتدليل عليها بمثال، ما دامت جميع النصوص الإبداعية الملحونة تأتي غير ملتزمة برفع الفاعل ونصب المفعول وجر المضاف... ولكن استعمال الألفاظ العربية وفقا لبنائها الصرفي المقعد، أو مع تحوير لذلك البناء، يتطلب منا التدليل عليه بمثال من متون هذا الشعر والأدب العربي المغربي الملحون: يقول الشاعر الشيخ أحمد الغرابلي في قصيدة "المرسول": 
((أنا الفاني وانا الهميم وانا الملسوع بليعة الغرام ؤ تنكالو
وانا اللي سري باح للورى من بعد الكتمان
أنا العاشق وانا السقيم وانا اللي جرحني البين بسنون انصالو
انا الصب المملوك والذي مالكني سلطان))
فالكلمات ( الفاني ـ الملسوع ـ العاشق ـ السقيم ـ المملوك ...) قد أوردها الشاعر الشيخ وفقا لبنائها الصرفي المورفولوجي العربي، فالفاني والعاشق وردتا موزونتين على صيغة اسم الفاعل لإفادة الدلالة على الاتصاف بالفعلين فني وعشق، أما ألفاظ الملسوع والسقيم والمملوك فقد استعملهما الشاعر الشيخ موزونة على قياس اسم المفعول لإفادة الدلالة على من وقع عليه الفعل. وبذلك نلاحظ أن الغرابلي قد حافظ على نفس الأوزان الصرفية المتعارف عليها في اللغة العربية المقعدة. أما الكلمات التي جاء بها الحاج أحمد الغرابلي محورة الوزن الصرفي فنمثل لها بلفظة: ( تنكالو)، إذ التاء الواردة في مبتدئها مزيدة لا لإفادة التشارك وتبادل القيم الخاصة بنفس الفعل كما هو الحال في بعض ألفاظ العربية التي منها: (التقابل ـ التراحم ـ التساوي ...)، وإنما جاءت هذه التاء من الأمازيغية كما في لفظة (تمغربيت ) لإفادة التعريف.
أما على مستوى المعجم فأرى أن أغلبية مكونات النص الشعري الملحون ذات أصول عربية صرف. ولعل النص السالف ذكره كفيل ببيان هذا المنحى. لكن ـ وكما تمت الإشارة إلى ذلك ـ فشاعر الملحون الشيخ يستعمل المعاجم العربية القديمة بنفس معانيها ودلالاتها أو بتحويرها لإفادة معان ودلالات يريدها هو كما تواضع عليها مع جماعته وعشيرته اللسانية. يقول الشاعر الشيخ الجيلالي امثيرد في قصيدة "الزطمة"(12) من القسم الثاني: 
(( هل عقيق انجالي اسكيب. جاوبني مرسول الحبيب. أنا بشرتك يا عشيق ودموعك هطلو لاش ذا البكا. شفيتيني قلت ليه. ما بي غير الخوف والحكام الطاغي والحاسدين. والبياعة والحارسين. مهما يقبطوني ما يفلتوني وانا متهام...)) 
ويقول في القسم الأخير المعروف باسم الدريدكة:
(( قالت لي تاج الريام. وصفني فبديع النظام. قلت لها كيف نقول. قالت اللي شفت وصفو ؤحدقو ونطق لي بالحق لا تكتم شهادة. فجواب ديها قالت لي قدي. قلت ليها صاري في مرهقان. شمر قلعو واتى بالغنيمة. قالت تيتي. قلت ليها ثعبان في زفرة الكوايل ورفاتو في وطان زيما. قالت غرة قلت ليها غرة نحكي كما سجنجل وجبين هلال تاڱ بين الفلكين في منزلة عظيمة...))
ففي الاستشهاد ين السالفين من الألفاظ والتعابير العربية الصميم ما جاء وفقا لما تفيده في العربية المسماة فصحى، وفيهما ما جاء مفيدا لدلالات ومعان مما تواضع عليه الشعراء الشيوخ المبدعون لنصوص الشعر الملحون. إذ نجد من الصنف الأول الألفاظ التالية: (هلّ ـ سكيب ـ جاوبني ـ مرسول ـ الحبيب ـ بشّرتك ـ  عشيق ـ دموعك ـ هطل ـ ذا البكاء ـ بديع النظام ـ انطق بالحق ـ لا تكتم شهادة ـ قدي ـ صاري ـ شمرـ قلع ـ أتى بالغنيمة ـ رفات ـ غرة ـ نحكي ـ  سجنجل ـ جبين ـ هلال ـ الفلكين ـ منزلة عظيمة ...) ونلمس كيف استعملها الشاعر الشيخ سيد الجيلالي امثيرد بمعانيها التي ترد بها في الاستعمال العربي المقعد، والتي تقدم لها في المعاجم العربية حين شرحها. ونمثل لذلك بأن الفعل (هلّ) يفيد الدلالة على الظهور والبروز، وأن كلمة (رفات) يراد منها الدلالة على جسد الميت، وأن لفظة (سجنجل) تعني المرآة،وبهذا المعنى أوردها امرؤ القيس رائد الشعراء الجاهليين وماهد طريقهم الشعري، حين قال في معلقته (13):
مهفهفة، بيضاء، غير مفاضة === ترائبها مصقولة كالسجنجل
أما الألفاظ التي استعملها سيد الجيلالي محولا إياها عن مألوف استعمالها في القواميس والمعاجم العربية فتثير انتباهنا إما بصيغتها الصرفية أو بدلالتها. فمن الصنف الأول نذكر: (  الريام ـ وصّفني ـ ديّها ـ الڱوايل ـ ...). ذلك أن لفظ (الريام) جمع للفظ (الريم) العربي الفصيح الذي يفيد الدلالة على الغزال الأبيض، وقد استعمله الشعراء الشيوخ لوصف الحسناوات الجميلات من النساء، وجمعوه هذا الجمع مع أن صيغته الصرفية المقعدة تأتي كما يلي: (الآرام). أما الفعل (وصّفني) فقد جاء به الشاعر الشيخ مزيدا بالتضعيف مع أن الاستعمال المعياري يستدعي أن يكون (صفني). وأراد الشيخ الجيلالي من استعمال لفظ(ديّها) الدلالة على (كلامها)، إذ إن لفظة (الدَّيُّ) في عربيتنا المغربية مصدر للفعل (دْوَى) الذي من مرادفاته (هدر) و(تكلم). وهذا الفعل (دَويَ) في العربية المقعدة يفيد الدلالة على معان منها ما ذكره الفيروزآبادي في ص:542 من الجزء الثاني من مصنفه ((القاموس المحيط)) حين دوَّن أن (...المُدَوّي: السحاب المرعد. (...) ودوي الريح: حفيفها، وكذا من النحل والطائر. ودَوّى الفحل تدوية : سمع لهديره دوي.). وتشترك هذه الاستعمالات اللغوية المقعدة جميعها في إفادة الدلالة على ارتفاع الصوت. ولعل المغاربة حين استعملوا هذا الفعل ومشتقاته راموا التعبير عن هذا المعنى وإفادة هذه الدلالة. ونستفيد من لفظة (الڱوايل) الدلالة على ما يستفاد من اللفظ الدال على جمع (القيلولة)، وهذه الصيغة التي جمع عليها هذا اللفظ قد نعتبرها صيغة جمع التكسير، بينما الجمع الذي يأتي عليه في العربية المقعدة يكون عادة جمع مؤنث سالم، فيقال: ( المفرد: قيلولة، والجمع: قيلولات). ومن الصنف الثاني يمكن أن نقف على الأمثلة التي تجسدها الكلمات والتعابير التالية: ( أنجالي ـ شفيتيني ـ البياعة ـ ...) فالكلمة الأولى تعني في القاموس المقعد (أنجالي = أبنائي) بينما نستفيد منها عند شاعر الملحون الدلالة على (عيوني) ففي قصيدة: "خلخال عويشة" يقول الشيخ على لسان العاشق:
((خلخال رفيع السوم معتبر ما ريت امثيلو ؤ لا انظرتو بنجالي
خلخال فريد العصر ما يلو فالدنيا تمثال))
أما جملة (شفيتيني) فالأصل فيها ـ في اعتقادي ـ عبارة (شفّيتي فيّ العديان)، وتستعمل عندنا للدلالة على أن المخاطب قام بفعل أشفى به غليل الأعداء والحساد والعذال. وكلمة (البياعة) لم يرد بها الشاعر الدلالة على التجار الممارسين لفعل البيع والشراء، بقدر ما عنى بها الأزلام الذين يكونون في خدمة من يملكون السلطة كأصناف (البصاصين والجواسيس). وكان الدكتور عباس الجراري قد توقف في أطروحته ((الزجل في المغرب: القصيدة)) عند استعمال الشعراء الشيوخ لجملة من الألفاظ العربية الصميم مع تحميلها دلالات لم تكن معروفة لها عند غيرهم، كتسميتهم: (البحر=الزخار) و(القلب=الخبير) و(الشابة الحسناء=العانس)... 
بقي أن أشير إلى أن استعمال الشيوخ من شعراء الملحون للدخيل من الألفاظ غير العربية يظل في حسباني وظني من الاستعمالات القليلة، ولربما ينحصر في الألفاظ ذات الأصل اللاتيني (الفرنسي بالأساس). ويمكن أن نمثل لها بما ورد عند الشاعر الشيخ المكي بن واجو الأزموري في ختام قصيدته"حراز عويشة"، حين يقول على لسان المحبوب (برافو  Bravoيا لالا) مهنئا المحبوبة التي سألته: (واش صافي شغلي ولا لا؟). ذلك أن كلمة (برافو) من الدخيل الفرنسي الذي استعمله شاعر الملحون حين وجد أنها هي ما يمكن أن يؤدي المعنى الذي رغب في أدائه. ومثال ذلك كذلك ما وجدناه عند الشاعر الشيخ عبد الهادي بن محمد باحنيني في قصيدته الموسومة "حراز ثورية"، التي يقول في حربتها أي لازمتها: 
(مال حراز غزالي ما بغاش عمرو يليان= بقلب قاصح صلدان=
على غزالي عساس اللي سباتني ثورية)
إذ ألفيناه يستعمل عددا من الألفاظ الدخيلة المستمدة من اللسان الفرنسي، ونمثل لها بما جاء في القسم الثاني على لسان السارد: 
(قلت يا راسي كيف اندير= جيت لو في صفة كوميسير= سرت عندو عازم = حتى لمرسمو يا فاهم = سبكتور كان معايا = جدارمي كبير حدايا = فالحين قام من غير فجور = دوا ؤقال لي بوجور = يا مسيو شعنا إلى مكاني بك اعطيني لخبار = أنا راجل مسكين ليس نعرف خاطة ولا جرام دايم جالس تحت الجدار = في الحين نطق هو ؤ قال عندي لخبار = عليك باين بياع الكيف مع الخمر = ونقلب هاذ الدار كلها ما ينفع فيها حراز = فالحين نطقت ؤقلت ليه داري = ما يمكنش انت تفتش فيها طول الدوام =ثم قام الجدارمي ؤقال أرا يديك يا بخيس = والنيميرو خمسة تكون فيها من دون امهل = صيغ قول لحكام = فالحين قال لو يا مسيو بردو = واسمع قولي لا تعود نادم غيضان =خذ قول بالبيان = راه عندي الحماية صايل بغير خفية...) 
الكلمات الدخيلة، ذات الأصل الفرنسي، التي استعملها الشاعر الشيخ في هذا القسم من قصيدته هي من المفردات التي دخلت استعمالات المغاربة منذ عهد الحماية الفرنسية وبسبب من التنظيم الإداري الذي غدا عليه المجتمع المغربي. هذه الكلمات هي: كوميسيرCommissaire ، سبكتورInspecteur ، جدارميGendarme ، بوجورBonjour ،مسيوMonsieur ، النيميرو خمسةle Numéro Cinq، بردوPardon .  وقد استعملها الشاعر الشيخ وفقا للنطق الذي سار عليه أهله من أفراد الشعب المغربي، وليس وفقا لنطق أهلها من الفرنسيين الأقحاح. وشاءت له قريحته الشعرية أن يكشف من خلالها إدانته لهذا النوع من المغاربة الذين تخلوا عن انتمائهم لهذا الوطن مفاخرين بما وفره لهم أعداؤه من حماية، ومستعملين بالتالي لغة حاميهم للتشبه به ولو في صورة مشوهة مثل تشوه اللغة المستعملة من طرفهم. 
على سبيل الختم: 
قد يكون الهدف الذي رغبنا في تحقيقه من وراء الكتابة في هذا الموضوع هو إثارته والدفع إلى التفكير الجاد والمتجدد في سؤال اللغة التي نستعملها في حياتنا، ومدى ارتباطها بأصول ومراجع تمتد عميقا في تربة اللغة العربية المنعوتة بالفصاحة، كما ترتبط بأصول ومراجع من اللغات والحضارات التي كان لأمتنا أن تتعرف عليها وتحتك بها احتكاكا طوال تاريخها. لا سيما وأن النصوص الشعرية الملحونة تشكل ما يمكن اعتباره ديوان المغاربة جنبا إلى جنب الشعر الأمازيغي والشعر الحساني، إذ في متون هذه الأشعار نستطيع العثور على ما يقدم تصورات وتمثلات المغاربة عبر عصور تاريخهم للكون والوجود للإنسان والحياة، كما بإمكاننا أن نجد فيه وثائق تؤرخ لوقائع عاشوها واتخذوا منها مواقف. أليست اللغة كائنا حيا يتفاعل مع المعيش الذي يحياه مستعملوه؟ 
وأريد أن أختم هذه الدراسة بالوقوف عند نص قصير، أعتبره من الشعر الملحون، وهو غير معروف المؤلف، كان قد أمدني به ـ خلال بداية العقد الثامن من القرن الفارط ـ صاحب مقهى كانت تقع في سوق القصابين بالقرب من ساحة جامع الفناء، وحكى لي مناسبة إبداع صاحبه له كما يلي:
[كان أحد الحرفيين قد اتخذ له دكانا بواحد من فنادق أهل فاس في حومة الموقف بمراكش. وقد تميز هذا الحرفي بأناقته، وترفعه عن الخوض في ما يخوض فيه مجاوروه من الصناع والمعلمين الحرفيين. ولذلك ما فتئ هؤلاء عن السخرية منه، ومحاولتهم إثارة غضبه عن طريق المناداة عليه، حتى إذا رد عليهم بالقول "نعم" عمدوا إلى إصدار صوت شبيه بصوت الضراط يسمى عندهم"التڱباض"، وتلك العادة السائدة بينهم كانت تستدعي ردودا فاحشة. غير أن هذا الحرفي لعفته، ولاحترامه لنفسه وغيره، لم يكن يرد عليهم بمثل هذه الردود الجريئة. إلى أن بلغ السيل عنده الزبى، فما كان منه سوى أن أجابهم بالأبيات التالية، وقد وقف وسط الفندق متكئا على عكازته، وعصابته المشرقية متدلية فوق جلبابه، والرذاذ يتطاير من فيه:
((ما انا قرقار، ما انخالط ناس العار    واللي قرقار ما انديرو شي جاري
عندي منشار، والعقل هو النجار     والليل مع النهار هما تعباري
نڱدي غابة ؤما انبين شي ناري
واللي ڱبض كيتسمى حماري ))
ومن الممكن إدراج الأبيات السالفة ضمن ما تم الاصطلاح عليه عند شعراء الملحون وشيوخه باسم (العروبي) الذي هو مقلوب (الرباعي). إذ (العروبي = الرباعي) عبارة عن شكل من أشكال القول الشعري الملحون، ما دام مبدعه يتوسل اللغة العربية المتداولة بين المغاربة، ويتخذ أبسط قياس من القياسات الموسيقية المعتمدة عند شعراء الملحون، نعني بالأساس القياس المعروف عندهم باسم المبيت المثني، والذي يتكون بيته عادة من شطرين يسميان عندهم (الشطر الأول=الفراش، والشطر الثاني=الغطا)، وما دام ـ أعني مبدع (العروبي) ـ يصوغ ما يروم قوله صياغة فنية تعتمد الانزياح اللغوي، ويستثمر التصوير الشعري المتجلي في استخدام الآليات البلاغية من مجاز وتشبيه واستعارة... ولعل في النموذج الشعري أعلاه ما يبرهن على أن الشعر الملحون قد غدا وسيلة تعبير فنية عند الصناع والحرفيين المغاربة خلال زمن ازدهار صناعاتهم، وأنهم وجدوا فيه ما يبرز تصوراتهم للكون وللحياة، وما يقدرهم على صياغة رؤاهم ومواقفهم من قضايا ومشاكل مجتمعهم. وفيه كذلك ما يؤكد فكرة أن العربية المستعملة من قبل المغاربة تظل متأصلة في اللسان العربي الذي يتجسد في كتاب الله وحديث رسول الله والشعر العربي القديم، وإن اعتورت هذا اللسان تحويرات نجمت عن التأثر باللسان الأمازيغي، أو أصابته تميزات نتجت عن الاستعمالات العربية اللهجية التي قدم بها بنو هلال وبنو سليم، أو دخلته ألفاظ وتعابير من الفرنسية وغيرها من اللغات والألسن التي أوجب التاريخ على المغاربة أن يتعاملوا معها وبها في حياتهم اليومية خلال حقب معينة. إذ إخال أن لفظة (قرقار) هي تحوير صوتي للفظة (ثرثار)، وقد اختار الشاعر لفظة (قرقار) لمحاكاتها صوت الماء الوسخ في مجرى الوادي الحار، الذي يطلق عليه في بعض مناطق المغرب اسم (القرقارة). وأفادت لفظة (شي) في جملة: (واللي قرقار ما انديرو شي جاري) معنى النفي المطلق. أما باقي العبارات فقد صاغها الشاعر مستثمرا آلية التشبيه والاستعارة، ونقف من بينها على قوله: (عندي منشار والعقل هو النجار) فنتبين أنه شبه اللسان لقدرته على القطع بالمنشار، وشبه العقل لقيادته اللسان بالنجار الذي يقود المنشار في عمله. واستثمر المجاز في قوله: (والليل مع النهار هما تعباري)، إذ جاز بلفظتي (الليل والنهار) من معناهما المؤشر على الزمنين المتكون منهما يوم من الأيام، وانتقل بهما لإفادة الوضوح والصراحة. ثم استعار صورة إحراق الغابة دون إظهار النار التي اتقدت لأجل ذلك لكي يبين قوة التهديد وشدة الوعيد الذي يوجهه لمناوئيه. 


محمد بوعابد
الهوامش:
1. ــ إبن منظور:(لسان العرب)، ص: 379/383، المجلد 13. دار صادر. د ــ ت.
2. ــ محمد الفاسي: (معلمة الملحون)، ص:29، القسم الأول من الجزء الأول. السفر الرابع عشر من مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية. ط 1/1986.
3. ــ عباس الجراري: (الزجل في المغرب: القصيدة)، ص: 54، مطبعة الأمنية، الناشر مكتبة الطالب. الطبعة الأولى، د ــ ت.
4. ــ أحمد سهوم: (الملحون المغربي)، ص: 230، منشورات "شؤون جماعية"، ط 02/1993.
5. ــ شوقي حمادة: (معجم عجائب اللغة)، ص:7، دار صادر، ط1/ 2007.
6.  ــ ابن خلدون: (مقدمة ابن خلدون)، تحقيق: درويش الجويدي، المكتبة العصرية صيدا بيروت، ط /19991.
7.  ــ الشيخ رشيد عطية: (معجم عطية في العامي والدخيل)، ضبطه وصححه: خالد عبد الله الكرمي، دار الكتب العلمية، ط1/2002.
8. ــ كتب الرحالة السعودي محمد بن ناصر العبودي متحدثا عن اللسان العربي الدارج في المملكة المغربية: ((لم يكن المرء يسمع في هذه الأمكنة الشعبية الحافلة غير اللغة العربيةالخالية من اللكنة أو الكلمات الأعجمية كلها سواء منها الفرنسية وغير الفرنسية. وتمنيت لو كان الذين ينبزون إخواننا المغاربة بعدم الفصاحة في إيثارهم الفرنسية دون العربية أن يكونوا حاضرين هنا، وفي لغتهم أو في أمثاله من المواقع والمواقف ليصححوا معلوماتهم الخاطئة في هذا المجال. أما الذين يرمون اللغة المغربية وهي اللهجة باصطلاح الكتاب المحدثين فإن ذلك يدل على جهلهم بالعربية، لأن إخواننا المغاربة يستعملون كلمات وألفاظا عربية أو ذات أصل فصيح ولكن لا نستعملها، ولا تعرفها العامة عندنا، فاللغة العربية واسعة والمعجم العربي ذو فروع متشعبة منذ القدم، وقد أخذت اللهجات العربية من هذا المعجم ما أغناها ووسع حاجتها كلها، دون أن تحيط بما في الفروع الأخرى من المعجم. لا سيما تلك البلاد العربية البعيدة عن مراكز الحضارة الشرقية التي بعد عهدها بلغة تلك المراكز الحضارية بعدين هما بعد الزمان وبعد المكان، وإلا فإنني أعتقد جازما أن اللغة العربية عند عامة أهل المغرب هي أقرب إلى اللغة العربية المعجمية الفصيحة من لغة بعض الأقطار الشرقية القريبة من مراكز الحضارة العربية، وإن لم تكن أقرب منها إلى اللغة الفصحى(لهجة) قريش.)) صص:9/10 من كتاب "الإشراف على أطراف من المغرب العربي" المملكة العربية السعودية، وزارة التعليم العالي ــ الإدارة العامة للتعاون الدولي ــ الإصدار رقم17 (دـ ت).  
9.  ــ مما يقوله ابن خلدون في ص:585، تحت عنوان "الفصل الثامن والأربعون في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر": ((اعلم أن عرف التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مضر القديمة، ولا بلغة أهل الجيل، بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر وعن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا، وهي عن لغة مضر أبعد. فأما أنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر، يشهد له ما فيها من التغاير الذي بعد عن صناعة أهل النحو لحنا. وهي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم، فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب، وكذا أهل الأندلس معهما، وكل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده والإبانة عما في نفسه. وهذا معنى اللسان واللغة. وفقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلناه في لغة العرب لهذا العهد.))
10.  ــ الآية 29 من سورة (التكوير).
11. ــ تنظر كتابات المفكر العربي مهدي عامل، وبالأساس مؤلفه الموسوم(أزمة حضارة أم أزمة بورجوازية). 
12. ــ الشيخ الجيلالي امتيرد: (ديوان الشيخ الجيلالي امتيرد)، ص:93، قصيدة (الزطمة1). مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية. سلسلة"التراث". موسوعة الملحون. إشراف وتقديم الأستاذ عباس الجراري. الرباط 2008.
13. ــ امرؤ القيس: شرح المعلقات السبع للزوزني.


المراجع: 
ــ الإشراف على أطراف من المغرب العربي: محمد بن ناصر العبودي.
ـ ديوان الشيخ الجيلالي امتيرد.
ــ شرح المعلقات السبع للزوزني.
ــ القاموس المحيط للفيروز آبادي.
ــ لسان العرب لابن منظور.
ــ معجم عجائب اللغة  لشوقي حمادة.
ــ معجم عطية في العامي والدخيل.
ــ معجم الفصحى في العامية المغربية لمحمد الحلوي.
ــ مقدمة ابن خلدون.
ــ نسخ لقصائد من الشعر المغربي العربي الملحون.

https://almalhon.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى