قطوف ملحونية (17) ....(البنية الجمالية) الشيخ احمد البدناوي

قطوف ملحونية (17)....(البنية الجمالية)

الشيخ: احمد البدناوي                 

يمثل فن الملحون ،في شعره وموسيقاه،صورة مثلى للأرابيسك أو ما يصطلح عليه في الثقافة العربية بفن التوشيح.ويتجلى ذلك في الاٍنعكاس التطابقي العجيب بين تلك الزخارف المستعملة في النقش على الخشب،والجبص،وفي فسيفساء الزليج وغيرها من الصناعات المتأصلة في الثقافة المغربية.ولا أميل في هذا الباب الى الطرح الذي يجعل الصناعة التقليدية شرطا لازما في اكتمال مواصفات شاعر الملحون،ذلك أن البيئة الثقافية والفنية تجمع الصانع،والأديب،والعالم،والوزير،والملك،وتجعلهم جميعا متأثرين بشكل مباشر بروح هذه البيئة،ومبدعين في الملحون وغيره من الفنون الأخرى..
   وكما أشرت في البداية،فاٍن فن الملحون،شعرا وموسيقى،يعكس نفس الروح الجمالية التي نجدها في فن العمران والصناعات الأصيلة الأخرى،مُجَسدا لتلك الأشكال الهندسية الكثيفة والمتكررة بلا نهاية،مالئة للفراغات والفُسَح،كخاصية أساسية في الثقافة العربية عموما.ومن الصناعات الفنية- النفعية،تستأثرصناعة النسيج بمكانة مهمة في البناء الشعري لقصيدة الملحون،حتى أن جل الشعراء يستعيرون منها كلمات مثل (نسْج وغزْل)،لأداء معنى النظم عموما،كما يستعملون مصطلحات خاصة بهذه الصناعة
مثل(المرمة،البروال،الخياطة،النشب،الحرير،والسدى..)لتصنيف نوعية هذا النظم،أوجودته.ولايختلف هذا التصورعن مفهوم كلمة texte التي تعني النسيج، في جذرها اللغوي،لعدة لغات أوروبية..وثمة في ثراث العرب النقدي أكثر من اٍشارة اٍلى العلاقة بين النسج والنص الأدبي..ويظل هذا التناسق بين فن الملحون والصناعة الأصيلة محكوما بعقلية رياضية-هندسية دقيقة،من حيث التناظر والتداخل،والتماثل،والتقابل،يجعلها أعمق من أن تُختزل في تَمَكن الشاعرمن الزخرفة الجميلة،ومن اٍبلاغ للمعاني الحسية الظاهرية،لتتجاوزذلك اٍلى تعبيرحر عن خفايا ومجاهل هذا العالم اللامحدود،وعن أغوار النفس الاٍنسانية العميقة،في هارمونيا منسجمة من الشعر والغناء... 
   تكاد لاتخلو قصيدة أو سرابة في شعرالملحون من لوحات نموذجية عن هذا البناء الجمالي البديع،حتى غدا خاصية لايعتبرالشعرالملحون اٍلا بها..وسوف أدرج نماذج لبعض شعراء هذا الفن،من القدماء،والمعاصرين.
   _من قصيدة "خال وشامة" للتهامي المدغري،وهي من البحرالمشتب:
    الهوى حربو معلوم،أسيدي ياسيدي،مير سل حسامو*حربي شديد خصامو
   *مايطيق حد لطامو*صقايري نفسو فالميدان عاظمة 
   فالهوشا طرشون گلضمة*جبار وزاعم*رعد قوي طاغي زايم*هازم بخيلو
   الهزايم*ليث ضغّام*نبلي شديد ضرغام*من شوفة النيام يبهض بطال اللطام*
   هايج بحو طامي*وكايعيط طامة *
  _ومن قصيدة "فاطمة" لادريس بن علي،وهي من مكسور الجناح:
   الحب والهوى والعشق ونار الغرام،من حالة الصبا فعضايا قامو*
   كل واحد دار مقامو*فمهجتي وضحى بحسامو*مع سهامو*يطعن ويزيد
   بالجراح عدامي*في غراض هاذ الدامي*غير ملكت عقلي بجمالها
   وغلقت عنوة باب المراحمة *   
  _ من قصيدة لي بعنوان"عاد الهوى" وهي من مكسور الجناح:
    وشروق شمسها فنهار تجلى عظيم*ولقى ربيع قلبي فاني*
    والورد ذابل فوجداني*وحيى نسايمو من ثاني*وغدا الحب نشوان*
    ورتاح من الغيوان*والشوق هان*ونزاح بسود غيامو*
    وتفاجى الغتام*والهوى سعدو عاد سگام*
  _ ومن قصيدة "الربيعية"لأحمدالتركماني،وهي من المبيت الثلاثي:
   ذهب الباس ولابقى كباس أرا كب الكاس بين الوناس فظل شجار*
   شمر ذيلك مابقى عذر*زمان الفرح والزهو خلع عذارو
_ نلاحظ من خلال هذه النماذج الشعرية وكأننا امام لوحات وتحف من الصناعة المغربية الأصيلة، بما تزخر به من تشكيلات فنية رائعة..