قطوف ملحونية(24
(تداخل الحلم والواقع)
تُذكرنا قصيدة "الغرقة" لشاعرالملحون الكبيرعبد العزيزالمغراوي،بالقصة التخيُّلية المشهورة "روبنسون كروزو" التي كتبها الاٍنجليزي دانيال ديفو،سنة 1719،والتي تحكي عن فتى متهورمحب للمغامرة،يسوقه اندفاعه اٍلى ركوب سفينة متجهة اٍلى أمريكا،فيقدر للسفينة أن تغرق،وينجو روبنسون وحده،ليعيش معزولاعن العالم،في جزيرة لمدة 28سنة. لكن المثير للدهشة في قصة قصيدة "الغرقة" أنها تتأرجح بين الحقيقة والخيال،اٍلى درجة لايستطيع فيها القارئ أن يميز بين ماهو حلم وتوَهَّم،وما هوواقع وحقيقة.الشيء الذي يضفي على القصة هالة اٍبداعية،من الجمال الفني النادر.
تبتدئ القصة بشكوى الشاعر من فراق الأحبة وبُعدهم،بعد أن تملَّكه حبهم،وجعله يركب بحرهواهم،غيرمبالٍ بأمواجه ورياحه العاتية،الغيرمؤتمنة،ليُفاجأ يوما،بعاصفة هوجاء تقلب سفينته في عرض البحر،فيجد نفسه متمسكا بلوح خشبي،يوصله،بعد عناء طويل،الى شط النجاة على جزيرة خالية اٍلا من الأشجارالكثيفة المثمرة والطيور الغريدة،والمياه الجارية..وتحمل الأمواج أشلاء السفينة،فيعثر فيها على متاعه وماله الذي كان قد أحكم خزنه في غشاء مثين. ...ويلبث في تلك الجزيرة أياما بين الخوف والترقب، اٍلى أن تُقبل عليه سفينة،يتضح له بعد وقوفها أنها لقراصنة أعاجم،فيأخذونه أسيرا..ليبدأ دوامة أخرى من العذاب والضياع،تنتهي بقدوم سفينة لبحارة مسلمين،أغارواعلى سفينة الأعاجم،وخلصوه من أسره،وحملوه اٍلى بلاده سالما،اَمنا..
القصة كما ذكرت في البداية،يتداخل فيها الحلم والواقع،بشكل عجيب..فهل هي تصوير اٍستعاري مستفيض للوعة الشوق والبعد؟ أم هي استحضارلمغامرة بحرية حقيقية،عاشها الشاعربالفعل،وأراد مقابلتها وتشبيهها بمغامرته في بحر الحب والغرام ؟
..تساؤلات عدة تطرح نفسها في هذا النوع من الاٍبداع الذي نجده في كتابات أدبية صوفية قديمة،كما نجد له مثيلا في الأدب العالمي الحديث.
اٍليكم بعض المقاطع من هذه القصيدة الغريبة،التي تعتبر من فرائد الشاعرعبد العزيز المغراوي،الذي عاش في عهد السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي..
الحربة:
كيف نعمل ياربي من فراق الحباب
بعّْدوا بالرحلة ونقطعْت الزيارة
_ركبت بحر هواهُم فرياح مستقيمة
حتى بلغت البر المقصود بالسلامة
نلت جل رضاهم واتيت بالغنيمة
فالمواسط عكسَت لرياح بالسجامة
هاجت الفرتونة برياحها عقيمة
مع مواج اللجات وتقامت القيامة
منين هاج البحروجاني بريح وسحاب
ضاقت الدنيا بيا ضيقت المحارة
والرعود تسيل بسيل المزون صبَّاب
مع صواعق ورعود تذوّْب الحجارة
..........
-هاج البحر العميق،غطاني بمواج
وزلغ بيا،الفراق وطغى برياحو
حبل القنَّب،مانفع والسعد عواج
والصاري والقلوع،بهواهم جاحو
وغرق جفني صار تشتات لواحو
من عظم هولي يوم غرقَت السفينة
صارت على اللجات لواحها شضايا
سرت مُدة لابَرّْ يبان لا سفاين
غير ماكان من بساط السما على الما
مسيرة ثلث ليال فمحايني نعاين
شي جزيرة يظهر لي جرفها علامة
ساعدتني لرياح لاعندها مناين
سرت فوق اللوح عْلى اليَمّْ بالسلامة
للجزيرة رحت مغاشي هميم خبَّاب
بالظما والجوع على خاطري مرارة
نصيبها دوح شجار كما رخات لطناب
بالثماروماها يجري من الهمارة
-أنسْني برحمتو، فمواسط الجزيرة
رد لي بعد الغرق حوايجي ومالي
كان لي كمن كيس،وكيس فالجبيرة
والجبيرة في جلاَّن من ثياب غالي
ساعدو ريح سعيد على اللجوج سحَّاب
للجزيرة بقدرة ربي وعادجالي
_فزت بمالي مع العمر بعد الدهشة
من ضيقة خاطري وقلبي متغاشي
فرحت وسرت فالجزيرة نتمشى
نلقاها خالية ولافيها غاشي
غير نواح الطيار زايدني وحشة
عن ماقاسيت فالبحرمن تشواشي
من تضياق العشي للصبح الفاشي
لكن رجيت خالقي نرجع للنيل
حتى بان القلع بالشمس ضوالي
وسفينة جاية تقدَّف لتوالي
كان هُم مسلمين بشرى الفرح يكمل
ويبلغوني لهلي نظفربكل مقصود
كان هُم نصارى يديوني مكبل
ونبقى متغرب وحدي فريد مفقود
شرت ليهم جاوا لعندي بقلع زرَّاب
والسفينة ظهرت بصقالة النجارة
جاوبوني بكلام خلاف جنس العراب
بالسلامة واجبت لهم والبشارة
-مارسَّى فلكهم،حتى دارو بيا
نجبرهم خايبين،كفار عجامة
حملوني كيف،راد مولاي عليا
ودموع على الخدود،كالغيث سجامة
قلعوا بمقادف،والجراير منشية
كَنّْ حدية،على السوايح عوّامة
ولَّا مشهاب من رجوم الرجّامة
قلعوا ونشالوا بسفونهم فاليَمّْ
والقلع رسّى بهواهم على السواقط
كل كافر منهم في طرقتو محزم
والدّْمَان يحرك الدف والشرايط
مامشينا ساعة وانا كذا نخمم
حتى نرى غليوطة تاگت من المواسط
والرصاص بندقي مثل المزان صبَّاب
مع صواعق لنفاض تلوح كالمنارة
هكذا صرت انادي عن جواد العراب
جاتهم اليسلام تغير كالطيارة
-مهما دهشوا الكافرين هل الصلبان
ويندهو بالمسيح عيسى ويناجوا
وتحزمت الرجال وعطات النيران
هاجوا الفذاذ علعديان وماجوا
لله الحمد قلت ياجمع اليخوان
خوكم فالدين ماخفاكم تحواجو
قلبي وجوارحي لملقاكم راجوا
قلت ليهم شاعرمداح سيّْد القوم
فالنسب مغراوي والله راه عالم
ما جرى بيا فالدنيا بقيت مرهاب
بالجفا والهجرا ومحاين النصارى
-قالوا لي هات مانظمت على الفرقة
وماقاسيت فالمحان مع الكفار
وحكيت لهم ماجرى لي فالغرقة
وماشاهدت من عجايب فالزخَّار
ناحوا وبكاوا عن همومي بالحرقة
قالوا لي ياحزين عمدا لك صبار
واليوم خلاص مابقى لك شي تغيار
........
-فرح لينا،كل من كايبغينــا
ونكد من لايلو، درايـة بالـوهـوب
ويحو ويحين،لو بغض فاش يجينا
كل يامو يسير، فزمانومنكوب
بعد التشغيب،فرّْج الله علينا
من ليه الحمد ،والشكر مفجي الكروب
سلَّك يسري وفكني من كل شغوب
****************
