| |||
أيها السادة والسيدات ،إخواني الطلبة والأساتذة ، أيها الحضور الكريم :لا نرمي في هذا الموضوع الوقوف على تحديد مصطلح الملحون واشتقاقاته اللغوية .أهو مشتق من اللحن بمعنى الخطأ أم بمعنى الطرب والغناء والترنم أم معاني أخرى ،وإنما نستهدف ملامسة قضية أساسية وجوهرية ،يبدو أن الباحثين في حقل الملحون يمرون عليه مرور الكرام كما يقال . وهذه القضية تنحصر كون الخدور الأولى لفن الملحون من تافيلالت فيف نشأ ونما وترعرع حتى استوى تاما ناضجا في كل أغراضه واتجاهاته ومقاماته و أوزانه... والظاهر أن المهتمين بهذه النبتة لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن الظروف الذاتية والموضوعية التي جعلت من تافيلالت ومن سجلماسة بالتحديد مولد الملحون كنبتة أصيلة ومتأصلة تمتد جدورها في عمق التاريخ . نستطيع أن نجد لها سندا في عصر التأسيس.. وبالتالي فهؤلاء يجهلون تافيلالت لا كموقع جغرافي يتواجد في الجنوب الشرقي المغربي من الوطن ، إنما يجهلونها كمعطى سوسيو ثقافي ونفسي لحضارة مادية وغير المادية . ومن باب الإيضاح والصراحة نشير إلى أن قضية الملحون وتافيلالت تجعلنا نحس بالنشوة والانتشاء لكون هذه النبتة الفنية من غرس هذه المنطقة ، ونحس ينوع من الخيبة لكون المهتمين بالملحون لم يستقصوا في أبحاثهم الملابسات العامة التي جعلت من تافيلالت موطن الملحون ومهده الأول..
إطلالة على بعض مؤلفات الملحون : تكاد أغلب المؤلفات التي تعرف بفن الملحون أو تدرسه أو تترجم لأعلامه تتفق تلميحا أو تصريحا على أن تافيلالت شكلت النواة الأولى لفن الملحون قبل أن يكتسح أرجاء الوطن زارعا القرى والمداشر أنعاما وأشعارا. فإذا رجعنا على سيل المثال إلى كتاب : في الإبداع الشعبي للدكتور عباس الجراري خصوصا الفصل الذي عنونه بقصيدة الملحون ،إبداع وتجديد ألفيناه يذكرقد ذكر 41شهعرا من شعراء الملحون منها 19 شاعرا تنتسب إلى تافيلالت كأساتذة ومشاييخ أي بنسبة 31،47 في المائة وهي نسبة لايستهان بها إذا نظرنا إليها من الزاوية المساحة العددية بالمقارنة مع بقية ربوع الوطن .أما الأستاذ محمد الفاسي شفاه الله/(رحمه الله ) في مقال له بمجلة المناهل التي كانت 1
تصدرها وزارة الثقافة فقد أشار بالحرف إلى "أن هناك ظاهرة عجيبة أن أكثر فحول
شعراء الملحون أصلهم من تافيلالت ،إن كانوا لم ينبغوا بها فالمغراوي، والمصمودي ، والشيخ الجيلالي امتيرد ،والسي التهامي المدغري ،وابن علي الشريف ،وابوخريص ،وعبد الرحمان حمدوش ،والحبابي ،والعيساوي الفلوس ، وعدد كبير من الشعراء الذين ينتسبون إلى البيت العلوي كل هؤلاء وغيرهم كثير أصلهم من تافيلالت " (1) .فقد اعتبر انحدار أغلب شعراء الملحون من تافيلالت ظاهرة عجيبة تثير الانتباه ،ولكن كما يقال إذا عرف السبب بطل العجب. وهذا السبب هو الذي نسعى إلى إبرازه في هذه المداخلة.إنها جملة من الأسباب كانت وراء إفراز فن الملحون بتافيلالت كمعطى ثقافي في بنية فوقية تترجمها بنية تحتية خصبة قابلة للتلاقح والإنتاج ،ولها خصوصيات تميزها عن باقي البيئات الأخرى. وسنحازل أن نستجلي بعض المسالك التي نراها أساسية لإماطة اللثام عن أسبقية تافيلالت إلى هذا النوع من الإبداع الشعبي محاولين استقراء النتف التاريخية والواقع الفيلالي لعله وعسى أن نجد ما ينير مسالكنا.
قراءة الواقع الفيلالي لتافيلالت : تشير الرواية الشفهية إلى أن انطلاقة الأولى الملحون كانت من قصور تافيلالت : إيرارة ،والغرفة، وتابوعصامت .. دون أن توضح على يد من الشعراء ؟ وما هي القصائد الأولى في هذا الفن ؟ إلا أننا نستطيع أن نذهب أبعد من ذلك ، وبالضبط إلى عصر التأسيس خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار الرأي الذي يشير إلى أن الملحون نشأ في صفوف الحرفيين أثناء مزاولتهم لأعمالهم حيث يجدون في الكلمات الموزونة متنفسا من وطأة العمل . وقد أكد المؤرخون على أن تافيلالت كانت مرتعا للحرفيين والصناع خصوصا الحدادة التي أدخلها جد بني مدرار إلى سجلماسة. ومدرار هذا " ذلك الرجل الحكيم الذي أدخل معرفة صناعة المعادن" (2).ولا يستبعد أن تكون الإرهاصات الجنينية لفن الملحون وسط جو الحدادة من الإيقاع الذي تحدثه المطرقة والسندان .ويمكن أن نعزز هذا الرأي بما رواه علماء العروض من أراء حول نشأة الأوزان الشعرية .فقد روى العروضيون أن الخليل ين أحمد الفراهيدي كان يتجول في أحياء الكرخ ببغداد فسمع ضربات المطارق ، وعلى وقعها هم إنشاء العروض . كما أشار المؤرخون إلى أن الانطلاقة الأولى لفن الملحون كانت مع المرابطين بسجلماسة وفي الأندلس مع ابن قزمان . وقد أشار ابن خلدون في جزئه الأول من العبر إلى " كيف استحدث أهل الأمصار بالمغرب فنا آخر من الشعر في أعارض مزدوجة كالموشح نظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضا سموه عروض البلد " (3) أي ما يطلق عليه بالمصطلح الفيلالي :" البلدي" .دون إغفال أن عبد الله بن ياسين المرابطي لما دخل سجلماسة قضى على الآلات الموسيقية ودور الطرب مما يدل على ازدهار الغناء والشعر في هذه المدينة . وينبغي أن لا ننس في هذا الجانب الحذاء الذي عرف في المنطقة لكونها صحراء ومفازة 2
خصوصا الطريق الرابط بين سجلماسة وغانة . و" الحداء يعني ذلك الغناء الذي يؤديه حداة الإبل ، وهم يسوقون الجمال والقوافل يجوبون بها الصحراء " (4). و يمكن القول أن الملحون في بدايته كان على شكل أراجيز خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار أن تافيلالت/ سجلماسة كانت تحت سيطرة الخوارج الصفرية والأباظية إبان القرن الثاني والثالث الهجريين ثم الرابع ومن خاصيات شعرهم كثرة الأراجيز.و"ارتبط إنشادأساسا بآلة التعريجة أو الكًوال "(5). ولكون سجلماسة التي تأسست سنة 140هجرية مركزا حضريا ، فقد شاعت فيه الأصوات المدنية والمكية والدمشقية وترنم بها أهل المنطقة وطوعوها إلى نغمات وإيقاعات محلية ، ومما يؤكد هذا الافتراض أن العبقرية الفيلالية تمكنت من توليد القراءة الفيلالية للقرآن بطابعها الخاص والمعروفة بغنتها الفيلالية / القراءة الفيلالية ....
القراءة في الأعمال الجماعية والفردية : مما لاشك فيه أن منطقة تافيلالت منطقة شاعرية يتدفق ينبوع الشعر على لسان أهلها في لغتهم اليومية ،وتهتز للطرب والغناء مؤمنة بما للكلمة من مفعول سحري على نفسية الكائن الحي . ويمكن أن نعتبر بعض المقاطع الغنائية التي تغنى في الأعمال الجماعية أو الفردية أوليات لما يسمى الشعر الملحون. فالحصاد يرددون أثناء عملية الحصاد بعض الأغاني على هذه الشاكلة :
زرعي ياعوج الركًاب ** احمـات عليـك الكًايـلة نتمنى لك سربة الرجال** تمشي وتجي كيف اجمال تمشي وتجي كيف اجمال ** بشواشيهــا المايــلــه (6) إيلا احمات الكايلــــــــة ** إحمى حـديـد مناجــــلي وايلا اعيــات الرحلــة ** ندهــــو بالله والنبـــي
.............(7)
وستلاحظون معي أيه الأخوة أن هذه الأزجال الشعبية يمكن اعتبارها النواة الأولى للشعر الملحون ..وهي من المبيت الذي يعتمد على فراش وغطا أي الصدر والعجز.وهو من ورن المشرقي الذي يعتبر من أكبر البحور استعمالا وانتشارا قبل المصمودي "وفيه يتظم بالخصوص أهل النواحي الشرقية من تافيلالت إلى تلمسان ،لذلك يسمى المشرقي ونظامه أن أبياته تتركب منشطرين فقط أي أبسط أنواع المبيت " (8). تأملوا قوله : من تافيلالت
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
3
1-محمد الفاسي: شعراء الملحون السلاويون مجلة المناهل وزارة الشؤون الثقافية ع 33/1985ص8
2- ماكوك : الروايات التاريخية عن تأسيس سجلماسة وعنة كما يعرضها ماكوك تعريب وتعليق محمد الحمداوي ص 49
3- ابن خلدون : ديوان المبتدأ والخبر..دار الفكر للطبعة والنشر بيروت لبنان 2001 ج1ص832
4- د عباس الجراري : في الإبداع الشعبي ص 28
5- د عباس الجراري في الإبداع الشعبي ن م س ص 66
6- وفي رواية أخرى : وريوسها مايلة
7- حذفت كثيرا من الأشعاربما في ذلك أغاني الأعمال الفردية
8- محمد الفاسي :معلمة الملحون أكاديمية المملكة ع 1ص 103